كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال النابغة:
فلما أدبروا ولهم دويّ ** دعانا عند شق الصبح داعي

وهذه أقوال فاسدة، ولولا أن المفسرين ذكروها، لأضربت عن ذكرها صفحًا.
{وإن يروا آية يعرضوا}، وقرئ: {وإن يروا} مبنيًا للمفعول: أي من شأنهم وحالتهم أنهم متى رأوا ما يدل على صدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة أعرضوا عن الإيمان به وبتلك الآية.
وجاءت الجملة شرطية ليدل على أنهم في الاستقبال على مثل حالهم في الماضي، ويقولوا: {سحر مستمر}: أي دائم، ومنه قول الشاعر:
ألا إنما الدنيا ليال وأعصر ** وليس على شيء قويم بمستمر

لما رأوا الآيات متوالية لا تنقطع، قالوا ذلك.
وقال أبو العالية والضحاك والأخفش: {مستمر}: مشدود موثق من مرائر الحبل، أي سحر قد أحكم، ومنه قول الشاعر:
حتى استمرت على سر مريرته ** صدق العزيمة لا ريًا ولا ضرعا

وقال أنس ويمان ومجاهد والكسائي والفراء، واختاره النحاس: {مستمر}: مار ذاهب زائل عن قريب، عللوا بذلك أنفسهم.
وقيل {مستمر}: شديد المرارة، أي مستبشع عندنا مر، يقال: مر الشيء وأمر، إذا صار مرًا، وأمر غيره ومره، يكون لازمًا ومتعديًا.
وقيل: {مستمر}: يشبه بعضه بعضًا، أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخيلات.
وقيل: {مستمر}: مار من الأرض إلى السماء، أي بلغ من سحره أنه سحر القمر.
{وكذبوا}: أي بالآيات وبمن جاء بها، أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد.
{واتبعوا أهواءهم}: أي شهوات أنفسهم وما يهوون.
{وكل أمر مستقر}، بكسر القاف وضم الراء: مبتدأ وخبر.
قال مقاتل: أي له غاية ينتهي إليها.
وقال الكلبي: مستقرّ له حقيقة، فما كان في الدنيا فسيظهر، وما كان في الآخرة فسيعرف.
وقال قتادة: معناه أن الخير يستقر بأهل الخير، والشر بأهل الشر.
وقيل: يستقر الحق ظاهرًا ثابتًا، والباطل زاهقًا ذاهبًا.
وقيل: كل أمر من أمرهم وأمره يستقر على خذلان أو نصرة في الدنيا وسعادة، أو شقاوة في الآخرة.
وقرأ شيبة: {مستقر} بفتح القاف، ورويت عن نافع؛ وقال أبو حاتم: لا وجه لفتح القاف. انتهى.
وخرجت على حذف مضاف، أي ذو استقرار، وزمان استقرار.
وقرأ أبو جعفر وزيد بن علي: {مستقر} بكسر القاف والراء معًا صفة لأمر.
وخرجه الزمخشري على أن يكون وكل عطفًا على الساعة، أي اقتربت الساعة، واقترب كل أمر مستقر يستقر ويتبين حاله، وهذا بعيد لطول الفصل بجمل ثلاث، وبعيد أن يوجد مثل هذا التركيب في كلام العرب، نحو: أكلت خبزًا وضربت زيدًا، وأن يجيء زيد أكرمه ورحل إلى بني فلان ولحمًا، فيكون ولحمًا عطفًا على خبزًا، بل لا يوجد مثله في كلام العرب.
وخرجه صاحب اللوامح على أنه خبر لكل، فهو مرفوع في الأصل، لكنه جر للمجاورة، وهذا ليس بجيد، لأن الخفض على الجوار في غاية الشذوذ، ولأنه لم يعهد في خبر المبتدأ، إنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، والأسهل أن يكون الخبر مضمرًا لدلالة المعنى عليه، والتقدير: {وكل أمر مستقر} بالغوه، لأن قبله: {وكذبوا واتبعوا أهواءهم}: أي وكل أمر مستقر لهم في القدر من خير أو شر بالغه هم.
وقيل: الخبر حكمة بالغة، أي وكل أمر مستقر حكمة بالغة.
ويكون: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر} اعتراض بين المبتدأ وخبره.
{ولقد جاءهم من الأنباء}: أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء وما يؤولون إليه في الآخرة، {ما فيه مزدجر}: أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه، أو موضع ازدجار وارتداع، أي ذلك موضع ازدجار، أو مظنة له.
وقرئ {مزجر}، بإبدال تاء الافتعال زايًا وإدغام الزاي فيها.
وقرأ زيد بن علي: {مزجر} اسم فاعل من أزجر، أي صار ذا زجر، كأعشب: أي صار ذا عشب.
وقرأ الجمهور: {حكمة بالغة} برفعهما، وجوزوا أن تكون حكمة بدلًا من مزدجر أو من ما، أو خبر مبتدأ محذوف، وتقدم قول من جعله خبرًا عن كل في قراءة من قرأ {مستقر} بالجر.
وقرأ اليماني: {حكمة بالغة} بالنصب فيهما حالًا من ما، سواء كانت ما موصولة أم موصوفة تخصصت بالصفة، ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ غيرها.
{فما تغنى النذر} مع هؤلاء الكفرة.
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {فتول عنهم} أي أعرض عنهم، فإن الإنذار لا يجدي فيهم.
ثم ذكر شيئًا من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه، إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة، فقال: {يوم يدعو الداعي}، والناصب ليوم اذكر مضمرة، قاله الرماني، أو يخرجون.
وقال الحسن: المعنى: فتول عنهم إلى يوم، وهذا ضعيف من جهة اللفظ ومن جهة المعنى.
أما من جهة اللفظ فحذف إلى، وأما من جهة المعنى فإن توليه عنهم ليس مغيًا بيوم يدع الداع.
وجوزوا أن يكون منصوبًا بقوله: {فما تغني النذر}، ويكون {فتول عنهم} اعتراضًا، وأن يكون منصوبًا بقوله: {يقول الكافرون}، ومنصوبًا على إضمار انتظر، ومنصوبًا بقوله: {فتول}، وهذا ضعيف جدًا، ومنصوبًا بمستقر، وهو بعيد أيضًا.
وحذفت الواو من يدع في الرسم اتباعًا للنطق، والياء من الداع تخفيفًا أجريت أل مجرى ما عاقبها، وهو التنوين.
فكما تحذف معه حذفت معها، والداع هو إسرافيل، أو جبرائيل، أو ملك غيرهما موكل بذلك، أقوال.
وقرأ الجمهور: {نكر} بضم الكاف، وهو صفة على فعل، وهو قليل في الصفات، ومنه رجل شلل: أي خفيف في الحاجة، وناقة أجد، ومشية سجح، وروضة أنف.
وقرأ الحسن وابن كثير: وشبل بإسكان الكاف، كما قالوا: شغل وشغل، وعسر وعسر.
وقرأ مجاهد وأبو قلابة والجحدري وزيد بن علي: {نكر} فعلًا ماضيًا مبنيًا للمفعول، أي جهل فنكر.
وقال الخليل: النكر نعت للأمر الشديد، والوجل الداهية، أي تنكره النفوس لأنها لم تعهد مثله، وهو يوم القيامة.
قال مالك بن عوف النضري:
أقدم محاج أنه يوم نكر ** مثلي على مثلك يحمي ويكر

وقرأ قتادة وأبو جعفر وشيبة والأعرج والجمهور: {خشعًا} جمع تكسير؛ وابن عباس وابن جبير ومجاهد والجحدري وأبو عمرو وحمزة والكسائي: {خاشعًا} بالإفراد.
وقرأ أبيّ وابن مسعود: {خاشعة}، وجمع التكسير أكثر في كلام العرب.
وقال الفراء وأبو عبيدة: كله جائز.
انتهى، ومثال جمع التكسير قول الشاعر:
بمطرد لذن صحاح كعربه ** وذي رونق عضب يقد الوانسا

ومثال الإفراد قوله:
ورجال حسن أوجههم ** من أياد بن نزار بن معد

وقال آخر:
ترمي الفجاج به الركبان معترضًا ** أعناق بزلها مرخى لها الجدل

وانتصب خشعًا وخاشعا وخاشعة على الحال من ضمير يخرجون، والعامل فيه يخرجون، لأنه فعل متصرف، وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمى، لأنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفًا.
وقد قالت العرب: شتى تؤب الحلبة، فشتى حال، وقد تقدمت على عاملها وهو تؤب، لأنه فعل متصرف، وقال الشاعر:
سريعًا يهون الصعب عند أولي النهى ** إذا برجاء صادق قابلوه البأسا

فسريعًا حال، وقد تقدمت على عاملها، وهو يهون.
وقيل: هو حال من الضمير المجرور في عنهم من قوله: {فتول عنهم} وقيل: هو مفعول بيدع، أي قومًا خشعًا، أو فريقًا خشعًا، وفيه بعد.
ومن أفرد خاشعًا وذكر، فعلى تقدير تخشع أبصارهم؛ ومن قرأ {خاشعة} وأنث، فعلى تقدير تخشع؛ ومن قرأ {خشعًا} جمع تكسير، فلأن الجمع موافق لما بعده، وهو أبصارهم، وموافق للضمير الذي هو صاحب الحال في يخرجون، وهو نظير قولهم: مررت برجال كرام آباؤهم.
وقال الزمخشري: و{خشعًا} على يخشعن أبصارهم، وهي لغة من يقول: أكلوني البراغيث، وهم طيء. انتهى.
ولا يجري جمع التكسير مجرى جمع السلامة، فيكون على تلك اللغة النادرة القليلة.
وقد نص سيبويه على أن جمع التكسير أكثر في كلام العرب، فكيف يكون أكثر، ويكون على تلك اللغة النادرة القليلة؟ وكذا قال الفراء حين ذكر الإفراد مذكرًا ومؤنثًا وجمع التكسير، قال: لأن الصفة متى تقدمت على الجماعة جاز فيها جميع ذلك، والجمع موافق للفظها، فكان أشبه. انتهى.
وإنما يخرج على تلك اللغة إذا كان الجمع مجموعًا بالواو والنون نحو: مررت بقوم كريمين آباؤهم.
والزمخشري قاس جمع التكسير على هذا الجمع السالم، وهو قياس فاسد، ويزده النقل عن العرب أن جمع التكسير أجود من الإفراد، كما ذكرناه عن سيبويه، وكما دل عليه كلام الفراء؛ وجوز أن يكون في خشعًا ضمير، وأبصارهم بدل منه.
وقرئ: {خشع أبصارهم}، وهي جملة في موضع الحال، و{خشع} خبر مقدم، وخشوع الأبصار كناية عن الذلة، وهي في العيون أظهر منها في سائر الجوارح؛ وكذلك أفعال النفس من ذلة وعزة وحياء وصلف وخوف وغير ذلك.
{كأنهم جراد منتشر}: جملة حالية أيضًا، شبههم بالجراد في الكثرة والتموج، ويقال: جاءوا كالجراد في الجيش الكثير المتموج، ويقال: كالذباب.
وجاء تشبيههم أيضًا بالفراش المبثوث، وكل من الجراد والفراش في الخارجين يوم الحشر شبه منهما.
وقيل: يكونون أولًا كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون، لأن الفراش لا جهة له يقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر والداعي، فهما تشبيهان باعتبار وقتين، قال معناه مكي بن أبي طالب.
{مهطعين}، قال أبو عبيدة: مسرعين، ومنه قوله:
بدجلة دارهم ولقد أراهم ** بدجلة مهطعين إلى السماع

زاد غيره: مادّي أعناقهم، وزاد غيره: مع هز ورهق ومد بصر نحو المقصد، إما لخوف أو طمع ونحوه.
وقال قتادة: عامدين.
وقال الضحاك: مقبلين.
وقال عكرمة: فاتحين آذانهم إلى الصوت.
وقال ابن عباس: ناظرين.
ومنه قول الشاعر:
تعبدني نمر بن سعد وقد أرى ** ونمر بن سعد لي مطيع ومهطع

وقيل: خافضين ما بين أعينهم.
وقال سفيان: خاشعة أبصارهم إلى السماء.
{يوم عسر}، لما يشاهدون من مخايل هوله، وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه.
{كذبت قبلهم}: أي قبل قريش، {قوم نوح} وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم.
ومفعول كذبت محذوف، أي كذبت الرسل، فكذبوا نوحًا عليه السلام.
لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسًا، كذبوا نوحًا لأنه من جملة الرسل.
ويجوز أن يكون المحذوف نوحًا أول مجيئه إليهم، فكذبوه تكذيبًا يعقبه تكذيب.
كلما مضى منهم قرن مكذب، تبعه قرن مكذب.
وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية، كقوله تعالى: {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان} {سبحان الذي أسرى بعبده} {وقالوا مجنون}: أي هو مجنون.
لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا: هو مصاب الجن، لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون، أي يقول ما لا يقبله عاقل، وذلك مبالغة في تكذيبهم.
{وازدجر فدعا ربه أني مغلوب}، الظاهر أن قوله: {وازدجر} من أخبار الله تعالى، أي انتهروه وزجروه بالسبب والتخويف، قاله ابن زيد وقرأ: {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين}.
قيل: والمعنى أنهم فعلوا به ما يوجب الانزجار من دعائهم حتى ترك دعوتهم إلى الإيمان وعدل إلى الدعاء عليهم.
وقال مجاهد: وازدجر من تمام قولهم، أي قالوا وازدجر: أي استطير جنونًا، أي ازدجرته الجن وذهبت بلبه وتخبطته.
وقرأ ابن إسحاق وعيسى والأعمش وزيد بن عليّ، ورويت عن عاصم: {إني} بكسر الهمزة، على إضمار القول على مذهب البصريين، أو على إجراء الدعاء مجرى القول على مذهب الكوفيين.
وقرأ الجمهور: بفتحها، أي بأني مغلوب، أي غلبني قومي، فلم يسمعوا مني، ويئست من إجابتهم لي.
{فانتصر}: أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم.
وإنما دعا عليهم بعد ما يئس منهم وتفاقم أمرهم، وكان الواحد من قومه يخنقه إلى أن يخر مغشيًا عليه، وقد كان يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، ومتعلق {فانتصر} محذوف.